فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعِلْم الله تعالى في قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض } [الحج: 70] يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد، وهذا من عجائب الأداء القرآني، أنْ يعطي الشيء ونقيضه، كيف؟ هَبْ أن عندك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر في غَيبتك، فلما عُدْتَ أسرعا بالشكوى، كل من صاحبه، فقلتَ لهما: اسكتا لا أسمع لكما صوتًا. وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه على وَفْق ما علمت، لا شكَّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر، وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه.
إذن: فعلم الله بكل شيء في السماء والأرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق، ووعيد للمبطل.
ثم يقول سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا }.
كأن العبادة- وهي: طاعة أمر واجتناب نهي- يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعًا، فليس لأحد منا أن يُشرِّع للآخر، فيأمره أو ينهاه؛ لأن الأمر من المساوى لك لا مُرجح له، وله أنْ يقول لك: لماذا أنت تأمر وأنا أطيع؟ أما إنْ جاء الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى، تقول: أبي أمرني بكذا وكذا، أو ربي أمرني بكذا وكذا، أو نهاني عن كذا وكذا.
إذن: كل دليل على حكم الفعل أو الترك لابد أنْ يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى، فهو الأعلى مني ومنك، وإذا انصعْتَ لأمره ونهيه فلا حرجَ على ولا ضرر؛ لأنني ما انصعت لمساوٍ إنما انصعت لله الذي أنا وأنت عبيد له، ولا غضاضةَ في أن نتبع حكمه.
لذلك في حِكَم أهل الريف يقولون: اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم لماذا؟ لأنك ما قطعته أنت إنما قطعه الله، فليس الأمر تسلط أو جبروت من أحد، وليس فيه مذلّة ولا استكانة لأحد.
ومعنى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [الحج: 71] يعني: يعبدون غيره تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } [الحج: 71] السلطان: إما سلطان قَهْر، أو سلطان حجة، سلطان القهر أن يقهرك ويجبرك على ما لم تُرِدْ فِعْله، أما سلطان الحجة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجة أن تفعل باختيارك، وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله ليس لها سلطان، لا قَهْر ولا حُجّة.
لذلك؛ في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهم: {وما كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [إبراهيم: 22] يعني: كنتم على إشارة فاستجبتم لي، وليس لي عليكم سلطان، لا قوة أقهركم بها على المعصية، ولا حجة أقنعكم بها.
ثم يقول تعالى: {وما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } [الحج: 71] يعني: علم الاجتهاد الذي يستنبط الأحكام من الحكم المُجْمل الذي يُنزله الحق تبارك وتعالى، وهذه هي حجة العلم التي قال الله تعالى عنها: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] يعني: أهل العلم.
إذن: العبادة لابد أن تكون بسلطان من الله نصًا قاطعًا وصريحًا لا يحتمل الجدل، وإما أنْ تكونَ باجتهاد أُولِي العلم.
وقوله تعالى: {وما لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71] لم يقُلْ سبحانه: لن ينتصر الظالمون، ولم ينْفِ عنهم النصر؛ لأن هذه مسألة مُسلمة إنما لا يفزع لنصرتهم أحد، فلن ينتصروا ولن ينصرهم أحد، ولا يفزع أحد لينصر أحدًا إلا إذا كان المنصور ضعيفًا.
ثم يقول سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر }.
تصور هذه الآية حال الكفار عند سماعهم لكتاب الله وآياته من رسول الله أو صحابته، فإذا سمعوها {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر } [الحج: 72] أي: الكراهية تراها وتقرؤها في وجوههم عُبُوسًا وتقطيبًا وغضبًا وانفعالًا، ينكر ما يسمعون، ويكاد أن يتحول الانفعال إلى نزوع غضبي يفتك بمَنْ يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم.
لذلك قال تعالى بعدها: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا } [الحج: 72] والسَّطْو: الفَتْك والبطش؛ لأن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولًا على وجوههم انفعالًا يُنبي بشيء يريدون إيقاعه بالمؤمنين، ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش.
قُلْ في الرد عليهم: ماذا يُغضِبكم حتى تسطوا علينا وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب الله. والغيظ والكراهية عند سماعهم القران دليل على عدم قدرتهم على الرد بالحجة، وعدم قدرتهم أيضًا على الإيمان؛ لذلك يتقلَّبون بين غيظ وكراهية.
لذلك يخاطبهم بقوله: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [الحج: 72] يعني: مالي أراكم مغتاظين من آيات الله كارهين لها الآن، والأمر ما يزال هيِّنًا؟ أمجرد سماع الآيات يفعل بكم هذا كلّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الآخرة، الغيظ الذي تظنونه شرًّا فتسطُون علينا بسببه أمر بسيط، وهناك أشرّ منه ينتظركم {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [الحج: 72]
وما أشبه هذا بموقف الصِّدِّيق أبي بكر حينما أوقف صناديد قريش بالباب، وقدّم عليهم المستضعفين من المؤمنين، فغضبوا لذلك وورِمَتْ أنوفهم، فقال لهم: أَوَرِمتْ أنوفكم أنْ قدمتهم عليكم الآن، فكيف بكم حين يُقدمهم الله عليكم في دخول الجنة؟
وكلمة {وَعَدَهَا } [الحج: 72] الوعد دائمًا يكون بالخير، أما هنا فاستُعملَتْ على سبيل الاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم، كما قال في آية أخرى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24] فساعةَ أن يسمع البُشْرى يستشرف للخير، فيفاجئه العذاب، فيكون أنكَى له.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه } [الكهف: 29] لأن انقباض النفس ويأسها بعد بوادر الانبساط أشدّ من العذاب ذاته.
وقوله: {وَبِئْسَ المصير} [الحج: 72] أي: ساءت نهايتكم ومرجعكم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هم نَاسِكُوهُ}.
عاد سبحانه إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان عن منازعته فقال: {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي لكلّ قرن من القرون الماضية وضعنا شريعة خاصة، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، وجملة: {وَهُمْ نَاسِكُوهُ} صفة لـ: {منسكًا}، والضمير لكل أمة، أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
والقرآن منسك المسلمين، والمنسك: مصدر لا اسم مكان كما يدلّ عليه: {هم ناسكوه}، ولم يقل: ناسكون فيه.
وقيل: المنسك: موضع أداء الطاعة، وقيل: هو الذبائح، ولا وجه للتخصيص، ولا اعتبار بخصوص السبب، والفاء في قوله: {فَلاَ ينازعنك فِي الأمر} لترتيب النهي على ما قبله، والضمير راجع إلى الأمم الباقية آثارهم، أي: قد عينا لكل أمة شريعة، ومن جملة الأمم هذه الأمة المحمدية، وذلك موجب لعدم منازعة من بقي منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزم لطاعتهم إياه في أمر الدين، والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه عن الالتفات إلى نزاعهم له.
قال الزجاج: إنه نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، أي لا تنازعهم أنت، كما تقول لا يخاصمك فلان أي: لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان، أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنًا، ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد: لا تضربه.
وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا ينازعنك، أي فلا يجادلنك.
قال: ودلّ على هذا {وَإِن جادلوك} وقرأ أبو مجلز: {فلا ينزعنك في الأمر} أي لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك.
وقرأ الباقون: {ينازعنك} من المنازعة {وادع إلى رَبّكَ} أي وادع هؤلاء المنازعين، أو ادع الناس على العموم إلى دين الله وتوحيده والإيمان به {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أي طريق مستقيم لا اعوجاج فيه.
{وَإِن جادلوك} أي وإن أبوا إلا الجدال بعد البيان لهم وظهور الحجة عليهم {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي فكل أمرهم إلى الله وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي بين المسلمين والكافرين {يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين فيتبين حينئذٍ الحق من الباطل، وفي هذه الآية تعليم لهذه الأمة بما ينبغي لهم أن يجيبوا به من أراد الجدال بالباطل وقيل: إنها منسوخة بآية السيف.
وجملة {أَلَمْ تَعْلَمْ} مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها.
والاستفهام للتقرير، أي قد علمت يا محمد وتيقنت {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض} ومن جملة ذلك ما أنتم فيه مخلتفون {إِنَّ ذلك} الذي في السماء والأرض من معلوماته {في كتاب} أي مكتوب عنده في أمّ الكتاب {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه يسير عليه غير عسير، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض يسير عليه.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} هذا حكاية لبعض فضائحهم، أي إنهم يعبدون أصنامًا لم يتمسكوا في عبادتها بحجة نيرة من الله سبحانه {وما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} من دليل عقل يدلّ على جواز ذلك بوجه من الوجوه {وما للظالمين مِن نَّصِيرٍ} ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران، وجملة: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} معطوفة على يعبدون، وانتصاب بينات على الحال، أي حال كونها واضحات ظاهرات الدلالة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} أي الأمر الذي ينكر، وهو غضبهم وعبوسهم عند سماعها، أو المراد بالمنكر: الإنكار، أي تعرف في وجوههم إنكارها.
وقيل: هو التجبر والترفع، وجملة: {يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟ فقيل: يكادون يسطون، أي يبطشون، والسطوة: شدّة البطش، يقال: سطا به يسطو إذا بطش به بضرب، أو شتم، أو أخذ باليد، وأصل السطو: القهر.
وهكذا ترى أهل البدع المضلة إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليهم من آيات الكتاب العزيز، أو من السنة الصحيحة مخالفًا لما اعتقده من الباطل والضلالة رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم لفعل به ما لا يفعله بالمشركين، وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف، والله ناصر الحقّ ومظهر الدين وداحض الباطل ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم، المبينين للناس ما نزل إليهم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم أمر رسوله أن يردّ عليهم. فقال: {قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم} أي أخبركم {بِشَرّ مّن ذلكم} الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب عليهم، وهو النار التي أعدّها الله لكم، فالنار مرتفعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والجملة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: ما هذا الأمر الذي هو شرّ مما نكابده ونناهده عند سماعنا ما تتلوه علينا؟ فقال: هو {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} وقيل: إن {النار} مبتدأ وخبره جملة: {وعدها الله الذين كفروا} وقيل: المعنى: أفأخبركم بشرّ مما يلحق تالي القران منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم؟ وقرئ: {النار} بالنصب على تقدير: أعني.
وقرئ بالجرّ بدلًا من شرّ {وَبِئْسَ المصير} أي الموضع الذي تصيرون إليه، وهو النار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ} قال: يعني: هم ذابحوه {فَلاَ ينازعنك في الأمر} يعني: في أمر الذبح.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه أيضًا.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: {فَلاَ ينازعنك في الأمر} قول أهل الشرك: أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض} يعني: ما في السماوات السبع والأرضين السبع.
{إِنَّ ذلك} العلم {فِي كتاب} يعني: في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} يعني: هين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يكادون يَسْطُونَ} يبطشون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماء وَالأرض}.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام، وقال: للقلم- قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش- اكتب قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض} يعني ما في السماوات السبع والأرضين السبع {إن ذلك} العلم {في كتاب} يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلق السماوات والأرضين {إن ذلك على الله يسير} يعني هين.
وأخرج ابن مردويه، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيفتح الله على أمتي بابًا من القدر في آخر الزمان لا يسده شيء، ويكفيكم من ذلك أن تقولوا: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير}».
وأخرج اللالكائي في السنة من طريق آخر، عن سليمان بن جعفر القرشي مرفوعًا مثله مرسلًا.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {يكادون يسطون} قال: يبطشون.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه {يكادون يسطون} قال: يبطشون. كفار قريش، والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}.
قوله: {تَعْرِفُ}: العامَّةُ على {تَعْرِف} خطابًا مبنيًّا للفاعل. {المُنْكَرَ} مفعول به. وعيسى بن عمر {يُعْرَفُ} بالياءِ من تحتُ مبنيًّا للمفعول، و{المنكرُ} مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ. والمُنْكَرُ اسمُ مصدرٍ بمعنى الإنكار. وقوله: {الذين كَفَرُواْ} من إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ للزيادةِ عليهم بذلك.
قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} هذه حالٌ: إمَا مِنَ الموصولِ، وإنْ كان مضافًا إليه، لأنَّ المضافَ جزؤُه، وإمَا من الوجوه لأنها يُعَبَّر بها عن أصحابِها، كقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] ثم قال: {أولئك هم}. و{يَسْطُون} ضُمِّن معنى يَبْطِشُون فيعدى تعديَته، وإلاَّ فهو متعدٍّ بـ: على يُقال: سَطا عليه. وأصلُه القهرُ والغَلَبَةُ. وقيل: إظهارُ ما يُهَوِّلُ للإِخافةِ. ولفلان سَطْوَةٌ أي: تَسَلُّطٌ وقهرٌ.
قوله: {النار} يقرأ بالحركاتِ الثلاث: فالرفعُ مِنْ وجهين. أحدُهما: الرفعُ على الابتداء، والخبرُ الجملةُ مِنْ {وَعَدَها الله} والجملةُ لا محلَّ لها فإنها مفسِّرةٌ للشرِّ المتقدِّمِ. كأنه قيل: ما شَرٌّ من ذلك؟ فقيل: النارُ وعدها الله. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ كأنه قيل: ما شرُّ من ذلك؟ فقيل: النارُ أي: هو النارُ، وحينئذٍ يجوزُ في {وعدها الله} الرفعُ على كونِها خبرًا بعد خبرٍ.
وأُجيز أن تكون بدلًا من {النار}. وفيه نظرٌ: من حيث إنّ المُبْدَلَ منه مفردٌ. وقد يُجاب عنه: بأنَّ الجملةَ في تأويلِ مفردٍ، وتكونُ بدلَ اشتمالٍ. كأنه قيل النارُ وعدها اللهُ الكفارَ. وأجيز أن تكونَ مستأنفةً لا محلَّ لها. ولا يجوزُ ِأَنْ تكونَ حالًا. قال أبو البقاء: لأنه ليس في الجملةِ ما يَصْلُح أَنْ يَعْمَلَ في الحال. وظاهرُ نَقْلِ الشيخ عن الزمخشري أنه يُجيز كونَها حالًا فقال: وأجاز الزمخشريُّ اَنْ تكونَ {النار} مبتدًا، و{وعدَها} خبرٌ، وأَنْ يكونَ حالًا على الإعراب الأول. انتهى. والإعراب الأولُ هو كونُ {النار} خبرَ مبتدأ مضمرِ. والزمخشريُّ لم يجعَلْها حالًا إلاَّ إذا نَصَبْتَ {النار} أو جَرَرْتَها بإضمار قد هذا نصُّه. وإنما مَنَعَ ذلك لِما تقدَّم من قولِ أبي البقاء، وهو عدمُ العاملِ.
والنَصبُ وهو قراءة زيدِ بن علي وابن أبي عبلة من ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الفعلُ الظاهرُ، والمسألةُ من الاشتغال. الثاني: أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ، قاله الزمخشري. الثالث: أن ينتصبَ بإضمارِ أعني، وهو قريبٌ ممَا قبله أو هو هو.
والجرُّ وهو قراءة ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح على البدل مِنْ شر.
والضميرُ في {وعدها}.
قال الشيخ: الظاهرُ أنَّه هو المفعولُ الأولُ على أنَّه تعالى وَعَدَ النارَ بالكفار أن يُطْعِمَها إيَّاهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ هو المفعولَ الثاني، و{الذين كَفَرُواْ} هو المفعولَ الأولَ كما قال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 68]. قلت: ينبغي أن يتعيَّنَ هذا الثاني؛ لأنَّه متى اجتمع بعدما يتعدَّى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارةً عن الأول، فالفاعلُ المعنويُّ رتبتُه التقديمُ وهو المفعولُ الأولُ. ونعني بالفاعلِ المعنويِّ مَنْ يتأتَّى منه فِعْلٌ. فإذا قلتَ: وَعَدْتُ زيدًا دينارًا فالدينار هو المفعول؛ لأنه لا يتأتَّى من فِعْلٌ، وهو نظير: أعطيت زيدًا درهمًا فـ: زيدٌ هو الفاعلُ لأنه آخذُ للدرهم.
قوله: {وَبِئْسَ المصير} المخصوصُ محذوفٌ. تقديرُه: وبئس المصيرُ هي النارُ. اهـ.